حصريا

ملامح التنشئة الأسرية في السنة النبوية

0 1٬593

 ملامح التنشئة الأسرية في السنّة النّبويّة

أ/سميرة بن حمودة

باحثة دكتورالية -جامعة باتنة-

تخصص: القرآن والسنة والفكر الإنساني

حضَّ الإسلام إلى المبادرة لتكوين وتنشئة أسرة سليمة؛كونها اللّبنة الأساسيّة لبناء المجتمعات والحضارات لأنّ المجتمع السّليم الذي تناط به التّكاليف الحياتيّة ينشئ جيلاً متماسكًا، يقود الأمّة لمصاف عالية بأحكام الشّرع.والنّاظر في نصوص القرآن الكريم والسّنة النّبويّة، يتبيّن له السّبيل الواجب اتّباعها لبناء أسرة سليمة، أصلها الارتباط برباط إلهي وهو رباط الزّوجية.

فالأسرة مجموعة أفراد يشكّلون الوحدة المتقاربة برباط الزّوجية،وتُعدأهم مؤسّسة تقوم بواجب إعمار الأرض، وتقدّم خدمات لإحداث تنشئة سوّية تتّكفل برعاية الأفراد ضمن منظومة الآباء والأبناء، وذلك عن طريق نقل القيم والمبادئ والثّقافة من جيل لآخر وإكساب الطّفل تربية تتّضمن التّفكير السّليم والمعرفة الضَّرورية، ممّا يُسهم في توفير القدوة الحسنة وتهيئة الأفراد لتحمّل المسؤولية عبر الإرشاد الأخلاقي والعناية الصّحية، الثّقافية، الرّوحية الاقتصادية…،فيكون بذلك الهدف من التّربية الأسريّة هو النّمو المتكامل المرتبط بروح وتعاليم الشّرع الحنيف والقدوة الحسنة الدّالة عليها السّنة النّبوية المشرفة.

إلاَّ أنّ الأسرة المسلمة مُنيت بكثيرمن الأسقام على كافّة الأصعدة؛أدّت إلى تحوّلات عكسيّة أظهرت في الواقع المعيش الكثير من المشكلات كالتفكّك الأسري،عقوق الآباء،والعزوف عن الزّواج والطّلاق وغيرها، ولعلّ أهمّ أسباب هذا التفكّك والانحلال هو البعد عن المنهج الإسلامي عموما في التّصور الجمعي للأسر المسلمة، وضعف العامل التّربوي المؤسسّ على الأخلاق والقيم الدّينية واستبدالها بقيم مادّية صرفة؛ ممّا أدّى إلى بعدها عن خصائصها وواجبتها؛ فأدّى ذلك إلى ضعف ترابط أفرادها وسوء تنشئة أبناءها؛ لذا وجب الرّجوع للمنهج النّبوي والتأسّي بقيمه، وتمثل قدوته صلى الله عليه وسلم في التَّنشئة وإعطاء حلول للمشاكل التّي تعترضها.

والناظر في نصوص السّنّة النّبوية يجدها اهتمت بالأسرة عموما ومن جانبين خصوصا؛ جانب الآباء وجانب الأبناء، وإن كان الغالب عند إطلاق مصطلح التّنشئة الأسريّة أن تنصرف لتنشئة الأبناء، وترشيد سلوكهم وأخلاقهم وتقويمها، فالجانب الأبوي يعود إلى وجود الأسرة المسلمة في حدّ ذاتها، وتأسيسه على مقوّمات العلاقة الزّوجية النّاجحة بدءًا من الزّواج الذي إن عدم سقطت الأسرة بكافّة أطرافها، وذلك بما يقوم به كل طرف بمسؤولياته المنوطة به شرعا، وهو ما جاء بيِّنا في سنَّته صلى الله عليه وسلم بدءا بأسرته أوّلًا؛ إذ تعتبر الأسرة النّبويّة نموذجا وقدوة في التّنشئة،وفي مواجهة كل النّوازل، فقد كان عدلا بين زوجاته،ويحسن معاملتهن ويتبسط معهنّ ويرفق في التعامل معهن،ويفي بحقوقهن،وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم “خيَركم خيركُم لأهله،وأناخَيركُم لأَهلي”[1]، وأخلاقيات التعامل النّبوي في تربية الأولاد للوصول بهم إلى بر الأمان،بالتواصل والتراحم والنصيحة بينهم لإنشاء جيل متكامل وسليم.

فالوصول للمَوَّدة والرحمة المنشودة شرعا، لتكون دروسًا حياتية لأمته في كيفية الصبر وامتصاص الصدمات من أجل حفظ البيت المسلم والعبور به إلى بر الأمان؛كحادثة الإفك،وقضية تحريم التبني في الإسلام، ومسألة الطلاق وأثره على الأسرة وكيفية تجنبه، والسعي لإحلال الوئام محل الخصام،وكيفية تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع تلك العوارض في الحياة الأسرية.

أمَّا الجانب الثّاني فهو تنشئة الأبناء؛ فالتربية في الإسلام لا تقتصر على مرحلة معينة إلا أن مرحلة الطفولة من أهم المراحل وأخطرها وهي أساس المراحل الباقية، والمقصود منها هو تكوين شخصية الأولاد وتنميتها من جميع جوانبها وإحكـام بنائهـا إلى حد الكمال،عن طريق استخدام الأساليب التربوية المناسبة لكل مرحلة من مراحل عمـرهم،مما ييسر لهم حسن التعامل مع الآخر ينفي المجتمع الذي يعيش ونفيه، فالأبوان مسـئولان عـن تربية أبناءهم ورعايتهم قال صلى الله عليه وسلم:”كلكم راع وكلكم مسؤول عـن رعيته …والرجل راع في أهله…والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها “[2]؛ليس من الجانب المادي فحسب ولكن رعاية روحية ونفسيةأيضا.

فالمنهج النبوي وضح أساليب التعامل مع الأولاد،تأديبا وتهذيبا،مراوحا في ذلك بين الزجر والترغيب،وبما يناسب مختلف الأطوار العمرية،وقد بدأصلى الله عليه وسلم بابنته فاطمة رضي الله عنها وهي طفلة[3]: «يافاطمة أنقذي نفسك من النار،فإني لاأملك لك من الله شيئا»[4]،بخطاب عقدي كبير حتى ينشأ الطفل على امتثال أمره عز وجل، فالسنة النبوية تحوي كثيرا من الأحاديث يمكن الاستفادة منـها في إرساءأصول وأسس لرعاية الأبناء وتربيتهم وتوجيههم، ومن ذلك تأكيد حقهم في الاستمتاع ومنه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها:”سابقني النبي فسـبقته،فلبثناحتى إذارهقني اللحم سابقني فسبقني فقال هذه بتيك”[5]، فالنبي صلى الله عليه وسلم راعى حاجةالطفل للترويح وعدم مخالفة الفطرة؛ ومنها مساعدةً للطفل على اكتساب ثقته في نفسه،لتكوين الشخصيةٍ القائدة،ومنه أخذه صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن الأرقم،وهوصغير، مؤيدا لموقفه وتصديق اله،في مقابل موقف المنافقين « أبشرْ فقدصدق الله حديثك»،فأثر قوله عليه السلام فيه وزاد وتقديره لذاته،قال زيد بن الأرقم: «فماكان يسرني أن لي بها الخلدَ في الدنيا»[6].

هذه و غيرُها نماذجُ موجودة في السنة النبوية وأصولها للوالدين أولا؛ فإن عدمت أو اختلّت انجرَّت عنها انحرافات عقديّة، أخلاقيّة وسلوكيّة، ولا بد لتحقيقها الرّجوع إلى الأصل وهو الشرّع، فسنّته صلى الله عليه وسلم أقولاً وأفعالاً هي الموجّه لبناء أسرة تنهض بأعباء أمتها، حيث أن عامل التربية الأسرية هو العامل الحاسم في تربية النشء المسلم،فعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مامن مولود إلايولد على الفطرة،فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه”[7]

فنجد في سنته -صلى الله عليه وسلم- صورًا من تعامله مع أولاده وأحفاده وتوليهم بالنصح والإرشاد وتوجيههم إلى الصحيح في أفعالهم وسلوكهم بما يتناسب مع قدر بيت النبوة[8]، فكانت نماذج من علاقة الأبناء بالآباء كما أن الوصايا النبوية في بر الوالدين وطاعتهما،واحترام المسنين،كما بينت خطر عقوق الوالدين،وأنهم نال كبائر المفضية بصاحبه اإلى النار،وأن على الأهل تعهدالأبناء بالتربية السليمة؛حتى تتحقق ثمرة تربيتهما أولادهما في الصغر بطاعة الأبناءلهما وتعهدهما بالرعاية في الكبر، وتطعيمها بمختلف القيم كقيمة التَّضامن،وتقديرالذات، واحترام الكبار.. ومنه حديث أنس بن مالك أنه عليه الصلاةالسلام” إذا مر على غلمان فسلم”[9]، فالتربية بالقدوة الحسنة من أهم أساليب التنشئة للصغار لأنهم جبلوا على التقليد في هذه المرحلة العمرية، ومنه أيضا احترام حقوق الآخرين في قوله عليه السلام:”أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُتِيَ بشَرَابٍ فَشَرِبَ منه،وعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ،وعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ،فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أتَأْذَنُ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟فَقَالَ الغُلَامُ: واللَّهِ يارَسولَ اللَّهِ،لاأُوثِرُ بنَصِيبِي مِنْكَ أحَدًا،قَالَ: فَتَلَّهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في يَدِهِ”[10]، فالعبرة منه التواضع للصغار بالجلوس معهم واستئذانهم في حقوقهم،كما فيه تعليمهم لمراعاة مشاع رالآخرين،وتطييب لخواطرهم وإكرامهم، ومنه تربيته مع لىا لبذلوا لإنفاق في سبيل الله،وحثهم على مخالطةالناس والتفاعل معهم تعويدهم على التعاون مع الآخرين، والحوار الهادئ التوجيه إلى الاقتداء بالصالحين.

وإن الذي نؤكد عليه أنه بالإمكان الاستفادة من الطريقة النبوية في إيجاد حلول مناسبة لما تعانيه الأسرة المسلمة المعاصرة من مشكلات تعاملية،بإيضاح منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأساليبه المباركة في التعامل الأسري،مع ربطها بالواقع المعيش،وبيان أن الشرع الحنيف صالح لكل زمان ومكان، مع التأكيد على ضرورة التواصل بين أفراد الأسرة، وكذا الوعظ والإرشاد مطلوبان مع الود والتفاهم،بدلاً من أسلوب التعنيف والتوبيخ في حال ارتكاب الأخطاء.فالسنةالنبوية قدحوت كافة أساليب التربية والتنشئة،مماسلف ذكره كنماذج فقط،فالموضوع يطول والمقام لايسع لبسطه،ولكن إطلالة تحث على الرجوع إلى حصن الشرع الحنيف الذي لايتغير ولايتبدل.

 

[1]– من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه: ابن حبان في صحيحه(4177)،و الترمذي في سننه (3895) واللفظ له، والدارمي في سننه (2260)، وابن أبي الدنيا في مداراة الناس (154).

[2] – من حديث عبدالله بن عمر، أخرجه: البخاري، صحيح البخاري ، (2409 ).

[3]-لقول ربه تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين»، في السنة الثالثة بعد نزول الوحي، فكان عمر رسول الله يومها ثلاثا وأربعين، وقد وُلدت فاطمة عام بناء الكعبة، وعمرُه صلى الله عليه وسلم آنذاك خمسٌ وثلاثون، فعُلِمَ أنها يومَ خاطبها بقوله: «يا فاطمة أنقذي نفسك» كانت ذاتَ ثماني سنوات. ينظر: برحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض بمراكش أطروحة دكتوراه بعنوان: الأساليب النبوية وعلاج قضايا الأسرة في ضوء بعض مصادر  السيرة النبوية، إعداد: سعيد شرفي، إشراف: أ/د  المنصف الكريسي.

[4] -من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (2753) بنحوه، وفي ((الأدب المفرد)) (48) واللفظ له، ومسلم (204) باختلاف يسير.

[5]-أخرجه: الإمام أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل،(24163)، 2/6.

[6]– من حديث زيد بن أرقم، أخرجه الترمذي في سننه الترمذي(3314). والحديث ورد في سبب نزول سورة المنافقين.

[7]-من حديث أبي هريرة، أخرجه: البخاري، صحيح البخاري(1358).

[8]– ينظر: أسلوب تربية الطفل بالقدوة الحسنة في ضوء السنة النبوية، نور ناجحان بنت جعفر. والأحاديث الواردة في حماية الأسرة من التفكك، عماد الدين عمر عامر. وإكراهات الثقافة الاستهلاكية وتأثيرها في التنشئة القيمية للأسرة، بشير خليفي إبراهيم. والأسرة المسلمة المعاصرة في ظل التغيرات المعاصرة، رائد جميل عكاشة،منذر عرفات زيتون. مراجعة ماجد أبو غزالة.

[9]– أخرجه مسلم في صحيحه،(2168).

[10]-حديث سهل بن سعد الساعدي، أخرجه البخاري في صحيحه،(5620).

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.